تسليع الذات على السوشيل ميديا: مرحلة متقدمة من الإنحدار الإنساني
[ تاريخ النشر: 23 يونيو، 2022] نحن اليوم في العام 2022، حيث يبلغ التطور التكنولوجي ذروته، مقدماً تسهيلات للبشر على الصعد الحياتية. إلاّ أن هذا ليس كل شيء. حالة من الإنكار، والتشتت النفسي، والإنهيار الفكري، تغذيها السوشيل ميديا، مقدّمة نسخة فريدة عن تسليع الذات، أو ما يعرف تحت مسمى ” تشيؤ الإنسان “. كيف أصبحت مواقع التواصل الإجتماعي، محرفاً أساسياً لجوهر الإنسان الذي تهافتت المذاهب الفلسفية، ومدارس علم النفس على تشريحه وتحليله؟ كيف باتت السوشيل ميديا تشكل مرحلة متقدمة من الإنحدار الإنساني؟ لذلك، سنبحث في هذا المقال عن الأسباب الكامنة خلف التسليع الذاتي على مواقع التواصل الإجتماعي.
مقالات مرتبطة:
1- متلازمة المثالية: السقوط الفكري والروحي بأوج حلله
غالباً ما نبدأ صباحنا، بتصفح مواقع التواصل الإجتماعي خاصتنا. مئات الصور، التي تتبعها عبارات عن السعادة، والنجاح، والثقة بالنفس، والإرادة، وغيرها من المفاهيم الفضفاضة التي لا يمكن اختزالها بصورة تمّ تعديلها لساعات، بهدف إظهارها بهذا الكمال. ولكن، ما الهدف من هذا كلّه؟ بالطبع تسليع الذات، بغاية إخفاء الكوارث والمتناقضات النفسية. لذلك، سنبحث في هذا المقال عن الأسباب الكامنة خلف ما يعرف الآن بتسليع الذات بكافة أبعاده المعنوية والمادية ، والإصرار على إظهاره على الدوام وبشكل مبالغ بالتكرار على مواقع التواصل الإجتماعي، التي باتت تشكل منصّة مهمة في روتين الإنسان اليومي.
2- الإنسان: الصراع الأزلي بين الجوهر والمادّة
إذا أردنا الدخول في أطر الفلسفة وعلم النفس، وطرق تحليلهما للإنسان. سنرى أن الميتافيزيك والماورائيات، وحتى الطبيعة تفوّقت على العقل الإنساني لعصور عديدة. إلاّ أنه ومنذ عصر النهضة، بدأ التفكير بجوهر الإنسان، وأهمية عقله. بعبارة أخرى، لقد بدأت الحداثة بالإعلاء من شأن الإنسان، باعتباره محور الكون، وكائناً متميزاً عن جميع المخلوقات، وحتى عن الطبيعة والعالم المجرد. ولكن، ومع التطور التكنولوجي، الذي بدأ في أواخر القرن التاسع عشر، ومع اكتساح الآلة المعايير الدينية والأخلاقية، وظهور عصر التنوير الذي أنتج نماذجاً عديدة من المفكرين، والفنانين، والفلاسفة الذين أشادوا بقدرة الإنسان العقلية في صنع المعجزات، أصبح الإنسان في المرتبة الأولى.
الحياة ليست وردية، كما تدّعي هذه العينات التي تغرق بحالة من الهذيان الفكري.
في المقابل، لم تبقَ التكنولوجيا ضمن إطار التحكم العقلي الإنساني، بل إستطاعت التحكم به مع مرور الوقت. إذ، أصبح الإنسان جزءاً لا يتجزأ من المادة، وتحوّل إلى مادّة دون هوية ذاتية، إنسانية، ومرجعية واضحة تميزه عن الدنيوية.
إستطاعت مواقع التواصل الإجتماعي، توثيق ما يعرف اليوم بتشيؤ الإنسان، بشكل دقيق وواضح. لقدّ تحول الإنسان في عصرنا هذا إلى شيء، يتساوى مع السلع والمنتجات، أو بالإحرى، أصبحت هي التي تحدّد قيمته، وهويته.
3- ” تسليع الذات “: خدعة تحرر المرأة العربية
في معرض حديثنا عن جوهر الإنسان، واللغط في تعريفه نتيجة التعقيدات التي اجتاحت روتين حياتنا اليومي. يمكن أن يكون للمرأة العربية الحصّة الأكبر. وهذا ما قد يعود لطبيعة الحياة الإجتماعية، والدينية، والأعراف والتقاليد، التي ثارت عليها الإمرأة منذ زمن، مطالبة بالتحرر، وحقها في المساواة بينها وبين الرجل. وهذا ما أوقع الإمرأة في نفق يتحدد ضمن إطار التغييب الكلي من جهة أو الحضور المبتذل والممسوخ من جهة أخرى.
وجدت الكثير من نساء العالم العربي، السوشيل ميديا ملجئاً آمناً للتعبير عن حريتها، وقدرتها في الوصول إلى لقب ” السوبر وومن “. نعم، فهي المثيرة، والذكية، والمثقفة، والقادرة على العيش دون رجال. نعم، هي القادرة على إقناع نفسها على الدوام بأنها النموذج الأفضل والمثالي، لنجد أننا أمام نسخ تشبه بعضها، مفتتة، ومبعثرة، ومدمرة، ساعية للوصول للكمال الخارجي وإقناعنا به، دون البحث الفعلي في الدوافع الأساسية خلف هذا الهراء كلّه.
خال للإمرأة العربية اليوم، أنها استطاعت أن تثور على الأنظمة الذكورية، المجحفة بحقها. ولكن، هذا الأمر غير حقيقي. إذ أننا نرى أن المجتمعات مالت إلى التفكك أكثر، وأصبحت المرأة رهينة منتجات، وحياة مادية تسعى بشتّى الطرق للحصول عليها. وهذا ما قد أسفر عن تشتت نفسي لدى أفراد كثيرين.
4- ” الفاشونيستا “: التمجيد المادّي لأبعد الحدود
نرى اليوم ظاهرة ما يعرف تحت مسمى ” الفاشونيستا “، و ” الإنفلووانسر “، أو ” البلوغر “… وغيرها من الكلمات التي باتت تشكل عادة إجتماعية، تسعى لها أغلب النساء وحتى الرجال. الصور اليومية المعدّلة، والوضعيات المتكررة، والألوان الممتزجة التي لا تلبث أن تسلخ الأشخاص عن العالم الواقعي لتغرقهم في واقع إفتراضي، غير مرئي. لماذا يصرّ مستخدمو مواقع التواصل الإجتماعي على إظهار هذه المثالية؟
إنّه وفي ظلّ الإستقرار الذي توفره مواقع التواصل الإجتماعي للأشخاص، بات النظر لمشاكل الحياة أمراً صعباً، وبات من المستحيل تقبل الواقع كما هو، بهدف تحليله وفهمه، لتحقيق التوازن النفسي، والفكري، والإجتماعي.
إنه وبالإضافة إلى سلبيات وإبجابيات مواقع التواصل الإجتماعي، وحقائقه المخيفة. نحن الآن في صدد رصد بعض المشاهد التي تتكرر أمامنا يومياً، والتي تخفي تخبطات نفسية وإجتماعية، ازدادت مع ازدياد استخدام مواقع التواصل الإجتماعي. فالسعادة أصبحت محددة تبعاً للقدرة على الإستهلاك بشكل أكبر، وأصبحت الإمرأة المثالية، هي القادرة على السفر، وعلى شراء المقتنيات، ومستحضرات التجميل، والثياب باهظة الثمن… فهل يمكننا نكران أن هذا تسليعاً ذاتياً؟ هل يمكننا التغاضي عن فكرة أن عدم الثقة بالنفس، وعدم الإقتناع بالحياة المادية المتدنية أصبح أمراً معتاداً نشهده يومياً؟ الشعور بالعجز والإنكار الدائم على جميع الجهات، أصبح متلازمة يصعب الخروج منها. فكلّ يعيش في فقاعته، يتلوى في البحث عن االإفتراضية، مبتعداً تماماً عن جوهر الحياة الحقيقي.
إنّه ومن غير المنطق، أن نحجب قدرة العقل غير المنتهية وقدرة الطاقة الروحية في الوصول إلى السماوات السبع، بشاشة مربعة ومحدودة. لا يمكننا أن نتغاضى عن نظريات الفلاسفة وعلماء النفس في البحث بجوهر الإنسان وعلاقته بالكون، لتقديم ثرثرات بالية عن الإرادة، ومفهوم النجاح بشكل مبتذل. فالحياة ليست وردية، كما تدّعي هذه العينات التي تغرق بحالة من الهذيان الفكري، بسبب أنها رافضة للواقع وتداعياته.
5- دوافع نفسية مخيفة خلف هذا التسليع
وأخيراً، قد تعزز مواقع التواصل الإجتماعي القدرة على التسويق لمنتج ما، أو في إطار التوعية. إلاّ أن تسليع الذات ينتشر بكثرة. ولكن، يخفي هذا الأمر أسباباً نفسية كبيرة، تحتاج إلى علاج مطول في أحيان كثيرة. فهذا ليس توثيقاً للحظة، وإنما دحر الإستمتاع باللحظة، واستشعارها. هل يريد الناس أن يكيدوا بعضهم البعض؟ بالطبع، سيكون هذا الكيد ناتجاً عن النقص العاطفي، والإحساس بالفشل وعدم الرضا عن النفس. تريدين أو تريد عزيزي القارئ أن تصبح كالمشاهير؟ أم تريدين فارس أحلام يلبي رغباتك المادية؟ فهل هذا بعيداً كثيراً عن تسليع الذات؟ هل هذا فعلاً هو التحرر الذي نطالب به؟ وما موقع العقل والروح من هذا كلّه؟ وأين أصبح الجوهر الحقيقي؟
بالطبع بدأت الحقائق بالتبدّل، والرؤية لم تعد واضحة كما يجب. فالمفاهيم الجوهرية لم يعد لها أي اعتبار أمام المسائل المادية، التي تحوّلنا إلى جماد. وذلك، لأننا نودّ أن نكون أشبه بتماثيل جامدة. إن الحياة متحركة، والإنسان متقلب، والثبات بهذا الشكل يفقد الإنسان إنسانيته، فنحن لسنا جماد، ولسنا مادّة لنسلع أنفسنا بهذا الشكل المدقع.